مقالات

الأب رفعـت بدر يكتب : من دون كيشوت إلى جون تشيلكوت

bd7d3b02a273cee786921bcf9812068856ff35ee.jpgبقلم الأب رفعـت بدر

: «في الحرب لا خاسر ولا رابح، فالكل خاسر وهي مغامرة، بل مجازفة ، في طريق اللاعودة، وسير في اتجاه غير صحي ولا صحيح». يعود العالم اليوم إلى الإصغاء إلى كلمات البابا الأسبق يوحنا بولس الثاني الذي كان في بداية القرن الحادي والعشرين واهناً، وضعيف البنية، لكن صوته بقي مجلجلاً إلى اليوم، في محاولته لإقناع العالم، وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية بالعدول عن الحرب على العراق عام 2003. لكنّ صوته بقي باحثاً عن عقول وآذان مصغية.

وبعد صدور تقرير السير جون تشيلكوت البريطاني قبل أيام، ويكر فيه أنه تم تجاهل «البدائل الممكنة» عن الحرب آنذاك، وأنها لم تكن الخيار الأنسب والأخير، وأن الأسلحة الكيماوية كانت مبنية على أكاذيب، وأنه تم تجاهل النتائج المحتملة لحرب في بلد غارق بالفوضى وسيكون فريسة للإرهاب والقتل والدمار، وهو ما يعيشه العراق الشقيق في يومنا الحاضر، نعرف كم كان العالم أصمّ وأبكم عن سماع كلمة الحق، وعن النطق بها جهراً وعلانية.
كم هو مؤلم أن يكون «حصد الأرواح» الذي ما زال مستمرا، قد بني على أكاذيب وممالك وهميّة من المصالح والمتاجرة بالسياسة والبشر. الأمر الذي نجم عنه فتح الباب لثعابين الإرهاب وذئاب التفجير ونشوء حركات تدّعي أنّ القتل يرتدي حلة القداسة والإيمان. وان كان العالم يستذكر طواحين الهواء ل»دون كيشوت» قبل خمسمئة سنة، فإنّه اليوم يقف حائراً أمام تقرير «جون تشيلكوت» الذي يبيّن الوهم الذي بنيت عليه خطط الحرب، ومبرراتها التي لم تتردّد من استخدام الإعلام مطية لتنفيذ مشاريعها القاتلة والفتاكة. لكن الفرق شاسع بين قراءة رواية دون كيشوت الذي لم يرق قطرة دم واحدة، كونه جاء في الوهم والتخيلات، وبين مطالعة تقرير جون تشيلكوت الذي يذكر المآسي والويلات وأعداد الضحايا البشرية، التي سقطت من جراء أساليب التضليل والتلاعب بالكرامة الإنسانية. من أجل ذلك صدر قبل أيام مقال للكاتب المتخصص في شؤون الفاتيكان أندريا تورنيلي، نشره في صحيفة لاستامبا وفاتيكان انسايدر وترجمه موقع أبونا إلى العربية، وذكّر بالجهود التي بذلها آنذاك البابا القديس البولندي الأصل الذي التقى وقتها مع زعماء ورؤساء حكومات، كما أرسل الكاردينال روجيه اتشيجاري للحديث مع الرئيس العراقي والمطران بيو لاغي للحديث مع الرئيس الأمريكي.
لم تصغ واشنطن، ومعها لندن، وقتها، لنداء البابا، واستمر الرئيس الأمريكي يدّعي بأنّ «الله تعالى قد ألهمه شنّ الحرب على العراق». وبعد نقاش حاد معه، قال له المبعوث البابوي: «يا رجل، إن لم تصغ إلى صوت وقف الحرب، فهذا شأنك. وان كنت مصمّما على شنّها، فلتكن من دون ذكر اسم الله عزّ وجلّ فيها». وبالرغم من ذلك وقبل أيام قليلة من الحرب، كان البابا المريض يصرخ من شباك غرفته الشهير: «ما زال هناك وقت للتفاوض. لا للحرب، لا للحرب.» لكن كلامه ذهب… بدون تأثير مباشر. إلا أنه اليوم يعاد إلى الساحة، ليقول سياسيو العالم، قبل شعوبه المؤمنة في أماكن العبادة، ليت العالم أصغى إلى كلام البابا… لكنا جنبنا المنطقة والعالم من ويلات وحرائق ما زالت مشتعلة وتزهق الارواح إلى اليوم.
وهكذا، بعد 50 عاماً من خطاب البابا بولس السادس على منبر الأمم المتحدة… لا للحرب… لا للحرب… وبعد صراخ البابا يوحنا بولس الثاني قبيل حرب أمريكا على العراق: لا للحرب لا للحرب… وبعد كلمة البابا فرنسيس كذلك من على المنبر الأممي عام 2015 وجاء فيها: « إذا أردنا تنمية بشرية حقيقية متكاملة للجميع، لا بد من المضي قدماً وبدون كلل في الالتزام لتحاشي الحرب بين الأمم وبين الشعوب»، على العالم أن يلتقط تلك الكلمات المليئة بالدروس والعبر: لا للحرب، فليس فيها خاسر أو رابح، لأنّ الكلّ خاسر.
من دون كيشوت ، الى جون تشيلكوت… الحرب لا تقود الا الى الجنون والهذيان. حماكم الله.

* مدير المركز الكاثوليكي للدراسات

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى