سوزان أبو جابر تكتب : لن تجبروني على كره وطني
أخبار الاردن- نبراس نيوز – بقلم سوزان أبو جابر : في ثنايا بصماتي ، لا تزال أناملي تختزن طين تراب حديقتنا ، حديقة بيت الطفولة والصبا …
اللعب بالطين كان تسليتنا لساعات عديدة ،.. نُنَخل التراب ، ونجبل بالماء ونعجن ونصبه في قوالب «الكيكس» (Cakes) ونجففه تحت الشمس ، كان لعبتنا ، وخيالنا ، و مطبخنا ، وضيافتنا في الزيارات عند لعب « بيت بيوت « مع بنات الجيران وصديقات العمر .
أنا لا أزال اذكر هذا الإحساس الرائع لملامسة عجينتنا هذه ، كانت متعة ما بعدها متعة ونحن نعامل التراب والطين ونغلغل اصابعنا فيه ، وكل ذلك قبل ان نسمع ب (Play Dough) وشركة) Fisher-Price) !!
ولا أزال أشتم رائحة هذا الطين……فترابك يا وطني لهُ عبق مختلف …..
اما ارجلنا النحيفة ، فقد صَقَلَت بلعب دؤوب حجارة الاردن في لعبة الإكس (X)… المرسوم على الارض بالطبشور… قفزٌ مع دفع للحجر الى الخانة القادمة ، والمهارة هي تقدير العزم المطلوب ليستقر الحجر فيها وليس على الخط الفاصل او الخانة التي تليها …في مربعات « الإكس».
هذه الحجارة المصقولة التي أكلت بضع أحذيتـنا ، صنع « باتا « Bata» و» القبطي « قبل ان تكون صنع «ايطاليا «، كانت مهمّة لنا … كنا نخبئ هذه الحجارة في مكان آمن للّعبة القادمة تماماً كما يحتفظ الجواهرجي بالاحجار االكريمة التي صقلها بعناية تحت المجهر .
هذا ترابك يا أردن وهذه حجارتك… !!
اما هواؤك ، الذي نادراً ما مر يوم صيفيّ إلا وهبّ ليلعب معنا ويلهو بطائراتنا الورقية ، المصنوعة يدوياً من الورق البني المعهود لتغليف الكتب المدرسية ، والمادة اللاصقة كانت عجينة رخوة من طحين القمح والماء … فنحن قد اكتشفنا فطرياً مادة « Gluten» في القمح قبل ان يكون هناك ملصقات على الطعام ، تحلّل مكوّناته ونسبتها المئوية . كما ان عجينتنا هذه أثبتت فاعلية أفضل من UHU”» و Super glue” « …!
العمود الفقري لطائرتنا الورقية كان قصب الأغوار ووادي الشعيب والرامة والواله … وما أروعكَ من قصب … حنون على أناملنا الغضة ، فلا شناتير تنغرس في اصابعنا ويصعب إخراجها، ولا جروح … بل كان قصباً خفيفاً حانياً، قاسياً ،وصلباً ويتحمل مقاومة الهواء…
تماماً مثلك يا وطني، صغير .. وحاني وصلب، ومقاوم للصدمات ..
أما خيوط المصيص ، المستخرجة من الياف اشجارنا الباسقة فقد كانت أمتن وأقوى من آلاف خيوط البوليستر « Polyster «صنع الصين «Made in China « .
كانت تتزاحم طائراتنا من « اللويبدة « مع طائرات اقراننا في « جبل الحسين « ونخشى ان تتقاطع خيوطتنا المصّيصية .. ثم تسافر جميعها باتجاه جبل القلعة… وجبل التاج … فالهواء غالباً ما كان يهب من الغرب ، حاملاً على تعبير امي رائحة حيفا وبحرها ، فهذا الهواء الرطب العليل .. مشبعاً بالنقاء والإنتماء هو هواؤك يا أردن ..!
ساعات وساعات كنا نقضيها على أسطح المنازل نلهو بطائراتنا الورقية ، نلاعب هواء الأردن ويلاعبنا ، ويندفع برفق الى رئاتنا ، فيملؤها انتعاشاً ونقاءً وحباً ….وكان ذلك قبل أنفاس هواء «المعسل « و «التفاحتين « للمراهقين في أروقة المقاهي .
وهذا هواؤك يا وطني …
اما مياهك … مياه ذاك النهر العتيق ،الغالي، الهادر.. فهي مياهٌ قدسـيّة … تذكّرنا « فيروز « بذلك … وهي وا لأسفي .. ويا لغضبي … اول ما سُرق منك يا وطني الحبيب .
سرق اللصوصُ نهَركَ ، وجففّوا مياهَـك ، كما جفّت دموع العين على سرقة القرن العشرين .. السرقة الكبرى التي فاقت لعبة « GRAND THEFT « في ال (Play Station ).
اما شمسك يا وطني ….شمسك التي لا تغيب إلا خجلاً من قمرٍ يرجوها الإكتمال ، فتدَعَهُ …
ثم تسرع مشرقةً يومياً لتمدنا بالدفء والنور …
تحثُّ اللوز الأخضر معلنةً حلول الربيع ، و تغافل المشمش ، ثم تحمّر بندورة الغور ، وبعدها تلتفت الى البطيخ والخيار و أخيراً تصبغ قمح اليادودة وأم العمد ومادبا وسهول البلقاء بصبغة ذهبيّة ولا أجمل .. مناديةً « حان وقت الحصاد « ومبشّرة بغلال الموسم !
شمس الاردن ساطعة … إجازتها السنوية لا تتعدى ال 30 يوماً … فهي شمسٌ كريمة لا تبخل علينا بأشعتها وحرارتها حتى في ايام الشتاء القارصة … فهي « تغاوز» معنا … تلملم أشعّتها من شمال المعمورة لتجود بها علينا ،،، مذكرةً إيانا بالأغنية الشعبية « كايدة العزّال « وأنت كايدة العزّال يا شمس الأردن … وما العزّال سوى أهل كندا وأهل اسكندنافيا …!
وهذه هي شمسك يا أردنّ …لوّحت أجسادنا المراهقة بسمرةٍ جـذّابة في مسابح المدينة الرياضية والنادي الارثوذكسي ، حين كان (Baby oil) هو الإجراء الوقائي الوحيد لدينا ، فلا مستحضرات SPF ولا UVA ولا UVB ولا FDA Approved !!!
في ثنايا بصماتي طين الاردن …..
وتحت أظافري قصب وديانه ….
حجارته دمغت عظامي ….
هوائه متغلغل في تجاويف الصدر…..
وتحت مسامات الجلد ، شمسُه…..
فيا وطني وشمتَ حبّك وشماً في ثنايا الروح وعلى شغاف القلب
ولن يجبروني على كرهك …!!