مأزق المناهج التعليمية العربية والحاجة للاستفادة من التجارب العالمية
أخبار الاردن – نبراس نيوز – بقلم سارة السهيل : يرتبط تحقيق النهضة في الدول والمجتمعات قديما وحديثا بجودة النظم التعليمية المعمول بها وتطويرها حسب متغيرات ومتطلبات كل عصر، ومع اعتماد شعوب العالم في الالفية الثالثة للميلاد علي نظم التعليم الاليكتروني، فان المناهج التعليمية قد تغيرت بسرعات فائقة لتناسب المجتمع الرقمي والحاسوبي العالمي.
وفي ظل هذه التحديات العلمية والتعليمية العالمية ظلت معظم دولنا العربية ترزح تحت وطاة جمود وعقم المناهج الدراسية التي لازالت تمتلأ بالحشو الزائد والاعتماد على الحفظ والتلقين دون الفهم. كما لا تزال معظم المناهج العربية ـ رغم دخول الحاسوب ـ تخلو من القدرة على تقديم انتاج معرفي يسمح بمخرجات تعليمية تناسب احتياجات سوق العمل.
وظلت الطامة الكبري ايضا في وجود مناهج تعليمية دينية تكرس للتطرف والغلو الديني بما يقود المجتمع لأزمات اجتماعية ودينية خطيرة مثل إخراج الدين من مضمونه الروحاني و الأخلاقي و التربوي إلى أداة للحكم و العقاب الدنيوي مما أدى إلى انتشار الإلحاد بين المراهقين و الابتعاد عن الدين كونه أصبح مصدر تعذيب و بالشق الثاني بعض المناهج التعليمية أصبحت بذرة لأفكار متطرفة تكبر و تنمو مع كل فصل دراسي كما بعضها لا يناسب فكرة التعايش و قبول الآخر بل العودة بعجلة الزمن للوارء عبر صراعات طائفية ومذهبية كرسها هذا الغلو الديني المستقي من بعض المناهج التعليمية ومن ثم فقدت المجتمعات العربية القدرة على تحقيق نهضة علمية او ثقافية او اقتصادية قوية تمكنها من المنافسة العالمية في سوق العلم والتعليم ومخرجاته الحديثة.
هذه الأزمات تدفعنا وتدفع كل غيور على أمته وأهله و شعبه إلى الدعوة لتبني نظم تعليمية حديثة تستفيد من التجارب العالمية التي حققت طفرات في مناهجها التعليمية واضافتها الي مناهجنا العربية و الشرق أوسطية .
المشكلة في محاولات تغيير المناهج في بعض بلداننا العربية هو أن اللجنة التي تقوم بمحاولة التغيير وكأنها غيرت اغلفة الكتب و أبقت على محتواها
بمعنى أن التغيير لم يحدث النتيجة المطلوبة أو الهدف من التغيير
و اقصد بذلك مناهج المواد العلمية و المواد التي تنمي الفكر و العقل و تحث على التفكير
كما أن مناهجنا العربية تفتقر إلى تنمية مواهب الأطفال و تحفيزهم على العمل و الاختراع و الابتكار
كما أنها تفتقد للربط التربوي بالعامل النفسي فاسلوب صياغة الكتب غير مدروس نفسيا من ناحية تأثيره على الطالب و تقبل المنهج و احتوائه ومن ناحية مراعاة فكر الطالب و عمره و حالته النفسية و من ناحية أخرى مهمه وهي ناحية معالجة المشاكل التي يعاني منها الأطفال في كل مرحلة عمرية تبعا للمستوى والمرحلة الدراسية
كما أنني أجد عدم انسجام أو تكامل بين المواد التي تعطى للفصل الدراسي الواحد و كأنما كاتب منهج العلوم لم يلتقي بكاتب منهج اللغة العربية و معد منهج التربية الإسلامية لم يقرأ منهج التربية الوطنية هذا ما يبدو لك عند قراءة المناهج رغم أنه من الممكن أن يكون نفس الشخص أو نفس اللجنة وضعت المنهاج كامل!!!!
أما بخصوص القيم التي نحب أن نجدها في أطفال اليوم بناة المستقبل
نجد أنها في بعض المناهج قيم متزعزعه و بعضها يميل إلى فئة واحده من فئات المجتمع المتنوع
فوظيفة التعليم هي الإبقاء و التأكيد على القيم الصالحة و الإيجابية وتعديل المفاهيم الخاطئة
وتعزيز السلوك الإيجابي و الأخلاقي مثل حب الخير مساعدة الآخرين احترام الكبير العطف على الصغير
و قيم احترام المرأة و دورها في المجتمع من خلال الصور المكتوبة و المرسومة داخل الكتب و التي ستطبع في ذهن الأطفال لتكون لديهم وجهة نظر تثبت في عقولهم عند الكبر
فصورة المرأة في المطبخ مثلا طوال الوقت ستطبع في ذهن الطالبة الخمول و طمس الطموح العلمي و العملي فيجب على سبيل المثال توضيح دور المرأة في رعاية بيتها إلى جانب عملها و تحقيق ذاتها و خدمة وطنها
كما اعتماد شكل واحد في الكتب المدرسية لملامح الأشخاص سيجعل الطفل يميل لهذه الأوصاف الشكلية و ربما ينفر من اي شكل لا يشبه ما رآه على مدى 12 سنة تعليم في كتب الدراسة
فالمطلوب تنوع الأشكال و الوان البشرة و اختلاف الملابس فنحن في مجتمع متنوع هناك البدو و الفلاحين و الحضر و المتدين و الانسان الوسطي و هناك المسيحي و ديانات أخرى وهناك اعراق و قوميات مختلفة بيننا مثل الكورد فلماذا نضع الطفل في قالب واحد و يصطدم بالتنوع الذي سيجده في مجتمعه حين يكبر
كما أن الخطاب الموجه طوال الوقت إلى الولد دونا عن إعطاء نفس القدر من الأهمية لخطاب البنت سيعلم الطفل أن يكون معنفا للأنثى في البيت و العمل و كافة الأماكن وفي كل المجالات
و يطبع في نفسه الغرور و الأنا
كلنا نعلم أن الديانات السماوية تنادي بالعدل و المساواة و لاحقاق الحق و لنشر القيم الأخلاقية الطيبة و السليمه من عفاف و صدق و امانة و ايمان و محبة
فلماذا لا نقول لأطفالنا من خلال المناهج الدراسية هذا الكلام
فالمتاهج هي الأوسع انتشارا و ما بث من خلالها لا يحتاج لجهد كبير كما في المطبوعات الأقل جماهيرية مثل قصص الأطفال أو برامج الأطفال وغيرها
لماذا نحصر القيم في دين واحد أو فئة واحده فيكره الأطفال بعضهم بعضا و يشعر الآخرون بعدم الامان وسط إخوانهم في الحي و المدرسة و الوطن و الأرض فنكون قد اشعلنا فتيلا من الفتنه دون أن نشعر
ولماذا لا يقول استاذ التربية الدينية سواء كانت الإسلامية أو المسيحية أو غير ذلك انه لا يجوز الكذب على كل الناس لا يجوز السرقه من كل الناس لا يجوز كراهية كل الناس لا يجوز قتل كل إنسان لا يجوز أن نتمنى الشر لكل الناس
و بالمقابل .. يجب الإحسان إلى كل إنسان يجب إكرام كل إنسان يجب أن ندعو بالخير لكل الناس و لا ندعو بالشر لأي إنسان
فلماذا نحصر الخير في إطار ضيق و قد اكرم الله عباده أجمعين و قد أحبت الانبياء والرسل والصالحين الناس أجمعين واكرموا محبيهم و أحسنوا لمبغضيهم و دعوا بالخير و الصلاح و الهداية لمن كفر بهم
فلماذا لا نقول هذا في مناهجنا لأطفالنا و درهم وقاية خير من قنطار علاج فيكون قد بنينا مجتمع نظيف طيب خال من الحقد و الكراهية يقبل الآخر و يحب الإنسان أخيه الإنسان
و إذا انتقلنا بالطائرة الورقية إلى بلدان أخرى و وصلنا الى فنلندا الأولى للعبرة سنجد:-
بالرجوع إلى تقرير التنافسية العالمية في المجال التعليمي، فان الدول الاسكندفانية احتلت صدارة المراكز الاولي في تطويرالتعليم وفقا لتقرير عام 2015، وتصدرت دولة فنلندا قائمة الدول الاكثر تطويرا في مناهجها التعليمية التي تجري بشكل اسبوعي حيث ان كل المعلمين يحملون شهادة ماجستير يتم تطوير مهاراتهم كل اسبوع يختارون منهم افضل 10% من الخريجين.
تقوم تجربة فنلندا افي تطوير التعليم علي عدة ركائز اساسية يمكن لعالمنا العربي الاستفادة منها مثل : احترام التعليم ليصبح جزءا من الهوية بحيث يتم ترسيخ احترام التعليم ومهنة التدريس.
ويجري اختيار المدرسين بعناية شديدة من اصحاب الكفاءات العالية وذوي الشغف بالمهنة وبالرغبة في مساعدة الآخر، فلا يكفي أن يكون المدرس حاصلا على شهادة البكالريوس أو الليسانس حتى يتمكن من شغل وظيفة “مدرس”، ولكنه لا بد وأن يكون حاصلا على درجة الماجيستير، ويتم قبول 11% فقط من المتقدمين لشغل وظيفة المعلم، وهذا يضمن أن المتقدمين الموهوبين والأكثر حماسة هم من يستحقون شغل تلك الوظيفة.
ويمتاز التعليم في فنلندا بالتركيز على العمق في المضمون المدروس، بدلا من زيادة المضمون والتعامل معه بسطحية، حيث يدرس المعلمون في الفصول لمدة 4 ساعات يوميا و20 ساعة أسبوعيا، نصف هذه الساعات يقوم فيها المدرس بإعداد المناهج الدراسية وتقييم الطلاب، ومع تقلص ساعات الدراسة تزداد فترات الراحة نسبيا لتصل 75 دقيقة موزعة على اليوم الدراسي.
واعتمدت المدارس الفنلندية على شعار مهم جدا وهو “لا تترك الطفل بالخلف” وهو الشعار الذي تم اعتماده لاصلاح احوال الأطفال المتأخرين دراسيا- وعدم عزلهم وفقا لمستواهم التعليمي- حتى يصلوا إلى المستوى التعليمي المتوسط والسائد بين زملائهم، من خلال مساعدة المعلمين لهم وإعطائهم اهتماما أكبر بكل صبر كي يتلقى هؤلاء الأطفال الدعم اللازم لتخطي الصعوبات واللحاق بزملائهم.
كما يتلقي حوالي %30 من الطلاب الفنلنديين مساعدة إضافية خلال أول 9 سنوات في التعليم الأساسي، وكل هذه العوامل جعلت فنلندا تمتلك أصغر فجوة بين الطلاب الأقوى والأضعف في مستوياتهم التعليمية على مستوى العالم وفقا لدراسة أجرتها مؤسسة التعاون الاقتصادي والتنمية.
ومن ميزات هذا النظام الفنلندي في التعليم ايضا انه يوفر علاقة ارتباط قوية بين المعلم والطالب، حيث يمكث المدرسين مع الطلاب فترة طويلة، لا تقتصر على العام الواحد وإنما تصل إلى 5 سنوات دراسية، وهذا يؤدي إلى توطيد العلاقة بين المعلمين والطلاب – الذين يبلغ عددهم 20 طالبا فقط في الفصل الواحد- وكسر جبل الجليد والتقرب منهم على المستوى الشخصي، ويدرك المعلم بشكل أكبر المستويات المختلفة لطلابه للتعامل مع كل طالب بالأسلوب الذي يناسبه.
ويحقق التعليم الفنلندي مبدأ المساواة بين الطلاب“المساواة فلا يفرق طلاب الريف عن الحضر فالجميع يحصل علي فرص تعليم متساوية عبر التمويل الشعبي للمدراس حيث يتم توزيع المال بالتساوي على المدارس.
وقد أدى هذا النظام التعليمي إلى ارتفاع نسبة المقبلين على الجامعة ومن ثم ارتفاع نسب المتخرجين في المدارس العليا بفنلندا لتصل إلى 93% لتفوق بذلك الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الصدد ب17.5%.
في ضوء التجربة الفنلندية الناجحة في التعليم، فان مناهجنا التعليمية العربية لابد وان تسفيد منها ومن غيرها من التجارب الأخرى في العالم. وترتبط عملية استعادة جودة التعليم العربي بالحاجة إلى وضع نظام تعليمي شامل في المناهج الدراسية والمعلم والطلاب معا باعتبارها منظومة متكاملة الأركان.
وتحتاج عمليات تطويرالمناهج التعليمية لتناسب احتياجات العصر الي تشارك خبراء التربية والتعليم واساتذة وضع المناهج لتشريح اوجه القصور الحادثة في المناهج القائمة والاستفادة من الاتجاهات والخبرات التربوية واختيار المناسب منها والصالح منها في وضع فلسفة تعليمية وتربوية واضحة ومحددة للمنهج تعمل على تطوير اداء المعلم وطرق تدريسه، وتطوير المناهج استنادا الي طرق تنمية التعلم بالنشاط والتعلم الذاتي، الاهتمام بالنوع وليس بالكم فقط، التعلم المستمر، وادخال التكنولوجيا في التعليم وفقا لاحتياجات المجتمع العربية وسوق العمل بها.
تجارب أخري
ويمكن للدول العربية الاستفادة من تجارب تطوير التعليم في عدد من الدول التي حققت ثورة تعليمية غير فنلندا، مثل تجربة التعليم في البرازيل التي انطلقت من إعادة صناعة المناهج الدراسية، مستفيدة من التجارب الناجحة التي طبِّقت في عِدَّة دول متقدِّمة، وركزت في تجربتها علي دمج التكنولوجيا التعليمية في العمل التربوي، وربط المناهج بالبيئات المحلِّية. والتخفيف من كم المقررات الدراسية النظرية دون الإخلال بالمستوى العلمي العالمي، والتوسّع في الأنشطة والممارسات العملية، ومراعاة للمتفوِّقين من الطلاَّب.
كما اعتمدت البرازيل على الاستجابة للمتغيِّرات والتحدِّيات المستقبلية والسرعة في التقنيات المعلوماتية والعمل على تنمية المهارات المتجددة في التفكير والبحث والاطلاع ومهارات الحياة لتخريج إنسان قادر على التعامل مع متطلبات العصر واتباع طرق التقويم الشامل المستمر.
قامت تجربة البرازيل بالتعاون مع اليونسكو، على تنفيذ مشروع " تعليم الاحترام للجميع" عبر تطوير مناهج تعزز قيم التسامح والتعليم على العيش معًا داخل المدارس، ومكافحة التمييز العنصري والعِرقي.
أما التجربة الكندية فقد انطلقت بداية من عام 1993م، عبر تطوير المناهج الدراسية باستخدام الإنترنت كوسيلة فعَّالة في منظومة التعليم، وقد طبِّق في هذا الشأن ما يعرف بمشروع School Net، الذي رصدت له الحكومة الكندية 30 مليون دولار، وطال جميع المناهج في المراحل التعليمية المختلفة، وقد حظي هذا المشروع بمشاركة العديد من الجهات ذات الصِلة بالتربية والتعليم، وفي إطاره نـفِّذت عِدَّة برامج لتدريب المعلِّمين، على طرق التدريس للمناهج الجديدة، باستخدام الأنشطة الصيفِّية المبنيَّة على الولوج الآمن في الفضاء المعلوماتي للإنترنت.
واعتمدت فرنسا في بناء مناهجها الدراسية الحديثة علي التفاعل مع معطيات العصر ، وتحقيق مزيد من الانسجام بين مدخلات ومخرجات التعليم من جهة وسوق العمل والتفوّق في الفنون والعلوم والآداب عبر تطوير مناهجها بمختلف المراحل الدراسية ، في ضوء اشتراطات ومعايير جودة التعليم، التي وضعتها المنظَّمة الدولية للتقييس (إيزوISO)..
وأعتقد ان التردي الحادث في عالمنا العربي والتزايد يوميا يدفعنا دفعا للاسراع بتطوير المنظومة التعليمية الشاملة فكرا ومناهج ومعلمين وطلاب من تطوير يستفيد من التجارب الناجحة في العالم لانقاذ مجتمعاتنا من التراجع العلمي والمعرفي والاقتصادي والثقافية .